جائزة نوبل للسلام- تحذير من شبح الحرب النووية القادم

في يوم الجمعة الحادي عشر من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، نالت منظمة "نيهون هيدانكيو" اليابانية المدافعة بشراسة عن مناهضة الأسلحة النووية، والمركبة من ناجين أليمين من هول القصف الذري الذي طال هيروشيما وناغازاكي في عام 1945، جائزة نوبل للسلام، وذلك في وقت عصيب تتجرأ فيه بعض الدول على التلويح بكسر هذا الحظر المفروض على استخدام الأسلحة النووية.
أعلن رئيس لجنة نوبل النرويجية، يورغن واتني فريدنيس، اسم الفائز، مؤكدًا أن اللجنة ارتأت تكريم هذه المنظمة تقديرًا " لجهودها المضنية من أجل بناء عالم ينعم بالسلام وخالٍ من الأسلحة النووية، ولإثباتها القاطع، عبر شهادات الناجين المروعة، أن الأسلحة النووية يجب ألا تُستخدم مجددًا تحت أي ظرف من الظروف".
ليس محض صدفة أن تتفضل اللجنة بتقديم هذه الجائزة المرموقة لهذه الجمعية بالذات، وفي هذا التوقيت الحرج من مسيرة البشرية، الذي يكاد ينوء تحت وطأة طبول الحرب النووية التي تقرع بلا هوادة. فجائزة نوبل تمنح "للشخص الذي بذل أقصى طاقاته لتعزيز أواصر الصداقة والإخاء بين الأمم والشعوب، ولسعيه الدؤوب لتسريح الجيوش أو خفض أعدادها النظامية، و لإنشاء هيئات أو مؤتمرات تهدف إلى الترويج للسلام وترسيخه".
تجدر الإشارة إلى أن هذه الجمعية تأسست في عام 1956 على يد نخبة من الناجين من كارثة القنبلتين الذريتين، وعملت بدأب على إبراز المخاطر الجسيمة المترتبة على التعرض لضربة نووية، محذرةً العالم بأسره من مغبة نشوب أي حرب مستقبلية؛ لأنها ستقضي بلا شك على حياة الملايين من البشر، بالإضافة إلى ما ستخلفه من آثار جانبية وخيمة على الصحة والبيئة، وتشوهات جينية تصيب الأجيال القادمة.
لقد حازت هذه الجمعية على هذه الجائزة الرفيعة في لحظة مفصلية يبدو فيها العالم على شفا الدخول في حرب عالمية ثالثة غير تقليدية، وذلك بعد أن تحولت سلسلة من الحروب المشتعلة إلى حروب وجودية أو استفزازية تنذر باستخدام تلك الأنواع المحظورة من الأسلحة، أو حتى حروب تهدد أمن الدولة القومية واستقرارها.
لقد شهدت الفترة الممتدة منذ عام 1945، أي منذ الاستخدام المأساوي للقنبلة الذرية للمرة الأولى، وحتى يومنا هذا، عشرات الحروب الطاحنة بين الدول، وآلاف الاعتداءات الوحشية ذات الطابع الدموي، كما حدث في اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عام 2001 في الولايات المتحدة، إلا أن اللافت للنظر أن أي دولة لم تجرؤ على التهديد باستخدام القنابل النووية، لا التكتيكية ولا الإستراتيجية، لإنهاء صراع محتدم، على الرغم من أن بعض الدول المتحاربة تمتلك في ترسانتها هذا السلاح الفتاك.
إن أسلحة الدمار الشامل تُعرف بأنها أسلحة "ردعية"، والهدف الجوهري منها ليس شن الهجوم على العدو المفترض، بل تهديده أو ردعه عن الاستمرار في غيه إذا ما شعرت الدولة التي تمتلكها بأن الحرب تشكل خطرًا داهما عليها. ولهذا السبب، تضع كل دولة تمتلك هذا النوع من الأسلحة ما يُعرف بـ"العقيدة النووية"، التي تحدد السبل المتاحة لاستخدامها، وتُبيّن حجمها ونوعها، إن كانت تكتيكية أم إستراتيجية.
تشهد الساحة الدولية في الوقت الراهن تصاعدًا مقلقًا في حدة الأزمات والصراعات، الأمر الذي يثير قلق المجتمع الدولي بأسره، خاصة مع امتلاك بعض الدول المتورطة في هذه النزاعات أسلحة ردع متطورة للغاية. وقد بدأت بعض القيادات في هذه الدول المنخرطة في الصراعات تنادي جهارًا بتعديل العقيدة النووية، الأمر الذي يفتح الباب واسعًا أمام احتمالية تبرير استخدام الأسلحة النووية لإنهاء الحروب الطاحنة.
الحرب الروسية الأوكرانية، التي أوشكت على إتمام عامها الثالث، تشهد تطورات ميدانية خطيرة تمثلت في اقتحام القوات الأوكرانية مناطق داخل الأراضي الروسية، وعلى رأسها منطقة كورسك واحتلالها، الأمر الذي شكل صدمة عنيفة للقيادة الروسية، التي تمتلك أكبر ترسانة نووية في العالم.
لكن تصريح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بأن الدول الكبرى أصبحت قاب قوسين أو أدنى من السماح لقواته باستخدام الأسلحة لضرب العمق الروسي، اعتبرته موسكو تجاوزًا سافرًا لكافة الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها.
هذا التطور الميداني المتسارع، بالإضافة إلى التقارير التي تصل إلى روسيا تباعًا بشأن الاندفاعة الغربية لإطلاق يد القوات الأوكرانية في استهداف مناطق حيوية روسية، دفع كبار المسؤولين الروس إلى المطالبة بتعديل العقيدة النووية الروسية لتصبح أكثر مرونة وليونة، بما يسمح للجيش الروسي بضرب أوكرانيا ومن يدعمها بمثل هذه الأسلحة الفتاكة.
تشير جل التقديرات إلى أن لجوء روسيا إلى استخدام هذا النوع الخطير من الأسلحة قد يوسع دائرة الحرب المشتعلة، لينتقل الصراع من الوكيل الأوكراني إلى الأصيل: حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي تمتلك بعض دوله، على غرار فرنسا، أسلحة نووية متطورة. علاوة على ذلك، تنشر الولايات المتحدة الأمريكية مجموعة كبيرة من القنابل النووية والصواريخ ذات الرؤوس النووية في عدد من الدول الأوروبية، الأمر الذي دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى نشر ترسانة نووية مماثلة في بيلاروسيا.
باتت منطقة الشرق الأوسط اليوم تُعرف بأنها منطقة ملتهبة، حيث تتصاعد وتيرة الحرب المستمرة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023 بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس في قطاع غزة المحاصر. فقد نفذت الحركة الفلسطينية عملية نوعية سمتها "طوفان الأقصى"، مما أدى إلى فتح إسرائيل حربًا شعواء توسعت لتشمل مناطق أخرى.
ويبدو أن الساحة اللبنانية أيضًا ترزح تحت وطأة حرب إسرائيلية شرسة تتزايد فيها أعداد القتلى والجرحى بسرعة مذهلة. وقد وصلت خطورة هذه الحرب إلى إيران بعد أن قصفت بمئات الصواريخ الباليستية كافة الأراضي الإسرائيلية المحتلة. وعلى إثر ذلك، توعدت الحكومة الإسرائيلية المصغرة بردّ قاسٍ ومزلزل على هذه الهجمات.
في ضوء هذا التصعيد الخطير، ارتفعت أصوات من داخل قبة البرلمان الإيراني تطالب المرشد الأعلى للجمهورية بتعديل العقيدة النووية لإيران، التي تنطلق من أسس دينية راسخة عبّر عنها المرشد الأعلى بأن هذه الأسس لا تسمح بامتلاك القنبلة النووية تحت أي ظرف من الظروف.
لكن سير الحرب والتصعيد المستمر دفع وكالات الاستخبارات الدولية إلى إطلاق تقارير مثيرة تتحدث عن أن إيران باتت على بعد خطوات قليلة من امتلاك القنبلة النووية. وتؤكد التقارير الاستخباراتية أن إيران قادرة على الرد بسرعة خاطفة إذا ما تعرضت مفاعلاتها النووية لأي هجوم غادر، من خلال تحميل بعض صواريخها الباليستية برؤوس نووية (محلية الصنع أو روسية). ويجدر التذكير بأن إيران وروسيا قد وسعتا إستراتيجية التعاون والتنسيق الدفاعي والعسكري إلى أقصى مدى خلال زيارة الرئيس الروسي بوتين الأخيرة إلى طهران.
باتت الخطوط الحمراء غير واضحة المعالم في ما يتعلق بالوقوع في براثن الحرب النووية بين الكوريتين، حيث بلغت الاستفزازات ذروتها، سواء من خلال المناطيد المحملة بالنفايات، أو قطع كوريا الشمالية جميع الطرق والسكك الحديدية المرتبطة مع جارتها الجنوبية، في تطور بالغ الخطورة لم تشهده المنطقه منذ سنوات طويلة.
كل هذه الإشارات والدلالات تنذر بأن الانزلاق إلى حرب نووية بات وشيكًا، وأن هذه الحرب قابلة للتوسع نظرًا للانقسام العالمي الحاد الذي يشهده العالم في الوقت الراهن، الأمر الذي يرفع من احتمال وقوع حرب نووية شاملة تدمر الأخضر واليابس. وفي ظل هذا التخوف المتزايد من هذا السيناريو المأساوي الذي يلوح في الأفق، يبقى السؤال المطروح: هل سينزلق العالم إلى مرحلة الحرب النووية المدمرة؟ وهل سيبقى هناك وجود للجنة نوبل لكي تمنح جائزتها لجمعية تحذر العالم من مخاطر الحروب النووية وتبعاتها الوخيمة؟